بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ شفيق جرادي
الإيمان نزوع طبيعيّ عند الإنسان يأخذه نحو طلب الكمال، أو طلب الأخلاق كما عند بعضهم.
إلّا أن مفكّرين باحثين في فلسفة الدين، ذهبوا للقول أنّ الإيمان هو انهمام وقلق تجاه الوجود والحياة. وإنّ نفس هذا القلق الذي يتولّد عن الهمّ الكبير في المعرفة والموقف من الحياة ومستلزماتها، هو نفسه إيمان…
والسؤال الذي يأتي بصدد الإيمان بما هو انهمام، “إيمان بأيّ شيء؟”. والإجابة عن مثل هذا التساؤل هو الذي كان يعني الأديان والجماعات. صحيح أنّ وظيفة بعض الفلسفة معرفة الشيء بذاته، أو بعلله الموجبة أو الموجودة له. إلّا أنّ هذا الاهتمام إنّما يخصّ فئة ً خاصّةً جدًّا من الذين يستغرقون في البحث عن كنه وحقائق الأمور. لكن متعلّق الإيمان هو المصبّ الذي تجتمع عنده كافّة إرادات الناس ووجدانهم.
ومتعلّق الإيمان أمر يختلف فيه دين عن دين، كما تختلف فيه جماعة عن جماعة.
وتدّعي الجماعات الدينيّة الوحيانيّة وغير الوحيانيّة إمكانيّة البرهنة اليقينيّة على صحّة ما تؤمن به وصوابيّته، وهذا ما ترفضه الاتّجاهات الفلسفيّة المعنيّة بدراسة الدين أو الفكر الدينيّ. إذ تذهب هذه الاتّجاهات بصورة عامّة إلى قناعتَين:
الأولى: إنّ الأمور والمعتقدات الدينيّة عصيّة على البرهنة والاستدلال. وإنّ الإيمان بها لا يكون نتيجة القناعة الاستدلاليّة، بل هو حال من الاطمئنان الذي يجتاح وجدان المتديّن بفعل الموروث أو بفعل التجربة الإيمانيّة التي تؤصّل العلاقة والصلة في نفس المعتقد والمتديّن.
الثانية: إنّ الاعتقاد بمقرّرات معيّنة أو حالات أو عقائديّات إنّما هو مغامرة يخوضها صاحب الإيمان، وهو برغم كلّ مظاهر الثبات التي يمكن أن تتبدّى على قوله وخُلقه وسلوكه، لا يخوض إلّا مغامرةً يرجو فيها السلامة والصواب.
وإنّي، في هذا الشأن، لن أدخل عميقًا في معالجة الاستدلال وإمكانيّة البرهنة على الاعتقاد الدينيّ، كما لن أتطرّق إلى الأثر الذي ينتجه الاستدلال العقائديّ بل كلّ ما يعنيني قوله في هذه العجالة أنّ الإيمان يختلف عن متعلّق الإيمان. وإنّ متعلّق الإيمان الدينيّ ينقسم إلى قسمين أوّلهما محوريّ يقوم عليه كلّ اعتقاد دينيّ وثانيهما يتفرّع إلى الإيمان المحوريّ. وهذا النحو الفرعيّ هو الذي يطبع الإيمان بطابع الخصوصيّة الدينيّة أو المذهبيّة.
ومن المعلوم أنّ أصل الإيمان بالكمال أو طلب المطلق حال فطريّ طبيعيّ عند الناس كافّةً، وهو لا يحتاج إلى الاستدلال أو البرهنة. وهذا لا يقلّل من يقينيّته مطلقًا. خاصّةً أنّ الأمور النظريّة أو ما يصطلح عليه المنطق الأرسطيّ، بالأمور الكسبيّة، هو ما يحتاج إلى البرهنة. أمّا الأمور البديهيّة والفطريّة فهي ممّا لا يحتاج في إثبات وتأكيد يقينيّتها إلى أيّ دليل أو برهان.
يبقى أن نسأل حول متعلّق الإيمان بقسمَيه المحوريّ والفرعيّ والذي لا بدّ أن نميّز فيه بين إيماننا بمصدر العالم الذي تسمّيه الأديان “الله”. وبين مقرّرات هذه الأديان والذي تدخل فيه الشخصيّات المؤسِّسة للأديان لتكون أصلًا من الأصول الاعتقاديّة، وهي الشخصيّات الرسوليّة والنبويّة حسب الأديان الوحيانيّة.
فمصدر الوجود والعالم هو المطلق الكامل الذي تبتغيه النفوس في أصل جبلّتها. لذا قد يصحّ القول أنّ أصل الإيمان بمحور الدين (أي الله) بما هو المطلَق الكامل، أمر لا يحتاج إلى البرهنة بسبب فطريّته، وكونه التعبير الأمثل عن الطبيعة الإنسانيّة في هادفيّتها، وكونه لا يحتاج إلى البرهنة لا يعني أنّه لا يُستدلّ عليه فهو قد يقبل ذلك. لكنّه يمثّل المنطلق الذي يقيم عليه الدين والعقل والوجدان والإيمان مقرّراته الإيمانيّة سواءً تجاه فعل الخلق والإيجاد أو سننهما أو ما يستلزم هذا الإيمان بالله من معرفة بصفات مصدر الوجود. بل يمكن من خلال ذلك أن نستدلّ على تصوّراتنا تجاه طبيعة الموجودات ومسار حركتها في قدرها والقضاء المولج بها.
وإلى أين تتّجه هذه الموجودات؛ خاصّةً الإنسان بما هو الكائن الذي يعنينا في أيّ مبحث.
وهنا ترتسم أمور الآخرة والمعاد والزمن الأخير، كما ترتسم مباحث العناية واللطف والرجاء والعقوبة، بل يمكن أن تتحدّد معايير الحقّ والباطل، والخير والشرّ بمعناها الوجوديّ الذي يفضي إلى المعنى الأخلاقيّ.
إلّا أنّ كلّ ذكر هو فرع على المحور، وهو ما يحتاج في معرفته إلى الاستدلال. لكنّ السؤال المركزيّ فيما يخصّ هذه المباحث هو “نوع الاستدلال؟”. هل يمكن أن نطلق للفلسفة العنان في تحكّمها بأصل وجود هذه الحقيقة الدينيّة أو عدم وجودها؟ أم إنّ نطاق الفلسفة هو البحث في الإمكان؟ أي إمكان وجود هذه الحقيقة الدينيّة.
هذا ما سنرجئ معالجته إلى وقت آخر.
إلّا أنّنا سنضع، بين يدي المبحث، التساؤل حول منطلق الإيمان بمؤسّس هذا الدين أو ذاك، وبممثّلي الأديان هنا أو هناك، من الذين فرّعوا المذاهب والمدارس في الدين الواحد.
فهل الإيمان بأيٍّ منهم أو بهم فطريّ؟ أم هو أمر نحيله إلى طبيعة الاستدلال الدينيّ؟ أم إنّ للعقل الفلسفيّ الدور الأساسيّ في ذلك؟ أم إنّ العائلة والإرث الثقافيّ والانجذاب الوجدانيّ هو الذي يجعلنا نتبنّى أو نثبت على إيماننا بهذا الرسول أو ذاك النبيّ أو ذاك الصادع بالدعوة إلى الله؟.
إنّ المغامرة هنا تبدأ بالسؤال، وهي مغامرة لا بدّ من خوضها لأهمّيّتها، لكنّها ما لم تكن مشفوعة بطلب الرجاء والتسديد من الله، فسوف تُبقي القلق الذي يعتري كلّ جماعة من هذا الدين أو ذاك فهي فرضت على نفسها طرح السؤال من بابه المفتوح.